المغارة

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
08/02/2017 06:00 AM
GMT



التحقتُ بفرقة لتسلق الجبال، لم تكن نزعتي الطارئة هذه غايتها الوصول إلى القمة، بل التخلص من ادمان القيعان، التخلص من حصار الأفق المستقيم الضيق المحصور بين البيوت، والنجاة من النهايات؛ نهايات الشوارع والبحر والجدران واليوم… أنه هرب من عدم الأسباب، والسعي وراء اسباب جديدة، خام، لحياتي أو لموتي. لا أخفي حقيقة افتقاري كلياً لأية صيغة في المدينة؛ لا عمل لي، ولا عائلة، ولا خليلة، ولا صديق، ولا دار… ليس لدي ما يبرر بقائي فيها.

تسلقنا بلا كلل، نمنا في العراء، أكلنا ما في حوزتنا وما وفرته لنا الجبال. لكنها لم توفر لنا قناعة مشتركة بجدوى بلوغ القمة والانحدار منها بعد ذلك. ماذا غير مناطحة الصخور والتشدق بجبروت الانتصار… الانتصار على ماذا؟ سيظل الجبل وحيداً في مكانه، ويظل الماعز الجبلي فوقه، والأفق تحته إلى الابد. اختلفت معهم بشأن الطريق والطريقة… هل من حقيقة يُختلف عليها أهم من الطريق؟
ودعتهم وسلكتُ طريقاً غير مأهولة، يحدوني يقين من أني لن أضيع مادامت القمة في الأعلى، وهذا يعني أن أتسلق… وأتسلق، أو أسقط مثل صخرة إلى عمق الوادي. كلاهما نهايتان عقلانيتان. لكني كنت حبيس فكرة البقاء لأطول زمن بين الصخور أعالج منحدراتها، والعيش في محاولة طويلة الأمد لنسيان أني كائن أرضي، أفقي، مستوِ، له أوهام، يعتقد أنه يمكنه الوصول ما دام يمشي.
تسلقتُ أياماً، تقرن اصابعي ونبتت لي مخالب، لحيتي غطت وجهي ولم تُبق فيه غير عينين أتعبهما الضوء، وأنف محتقن أحمر. أشتد البرد ذاك النهار وسرت في جسدي قشعريرة سريعة مثل البرق، فعزمت على التوقف قبل الليل والمبيت في مغارة صادفتني بين صخرتين عملاقتين. نظرتُ فيها اختبر خلوّها ودخلتها حذراً، كانت مفعمة بهواء ثقيل ورائحة حيوانية. فتشّتها جيداً ولم يكُ عرين أسد ولا جحر أفاعٍ. وضعتُ أمتعتي وخرجت أجمع الحطب. اشعلت موقداً كبيراً… فيما كان الليل قد حط ظلامه خارجها، تحت سماء خفيضة، وغفا. بدت النار في المغارة أهم الحقائق المستعرة في الوجود، شعرت معها بأمان عظيم وهي تراقص شعاعها على احجار السقف الواطئ. الحياة في أجمل لحظاتها، ألسنة اللهب جند يحمون روحي ويغذون جسدي المضنى بالدفء. ليس من خديعة أعظم من خديعة النوم، تشبه إلى حد كبير خديعة الموت والمرء مستسلما تماماً، بل يتمناه. دسست عظامي في الكيس قريباً من الموقد ولم تكن بي طاقة لأخذ وضعاً غير ما كنت عليه، وغفوت بلا أمل في شيء.

فتحت عيني ولم أكن أحلمُ… كانت ثلاثة جراء تتدافع، تتناهب أضلعي وتتكوّر في دفئي.
“ذئاب!”
فزعت، فتحت كيس النوم وهرعت صوب النار، التقطت غصنا مشتعلا ووقفت مستعداً للمبارزة…. لم ينبرِ أمامي غير ظلام مبهم بلا ملامح ولا دروع ولا رماح.
أين الذئبة؟ … أين الذئب؟
كنت ارتجفُ، ألقيتُ حطباً في الموقد، واتكأت على الجدار وتدثرت. جاءت الجراء تتمازح معي، كانت صغيرة لم تفطم بعد، فيها ما يذكرني بالحليب، فأخذتها إلى حضني اداعب فروتها. ولكن، جراء وليدة يعني جود أم مرضعة! ذئبة لا تعرف المزاح ولا تعرفني، أو ذئب في أنيابه جوع القفار. قبضتُ، ويدي ترتجف، على غصن يشتعل طرفه في الموقد، وعيناي جاحظتان على مدخل المغارة… هناك كان ليل دامس يتدثّرُ بفضاء سميك. ومضت في الظلام عينان ناريتان ثم اختفت، تصاعد لهب النار، فرقعت الاغصان الطرية وتشظي الهواء. مرقت عشرات العيون تطارد بعضها، دخل منها إلى المغارة وخرج، ثم اختفت… ابر دقيقة رقيقة ناعمة تنغرس في مساماتي، تحفر فيها، وتغوص في عمودي الفقري، على ذراعي تزحف عقارب، وعلى رقبتي تتسلق جعلان بسيقان كالمنشار. العطش يجتاح فمي… أرتجف واتصبب عرقاً، الموت يشم رائحتي ويلحسني بلسان خشن كالرمل. أنا أموت إذن! تفصد من جبيني عرق أشاع في وجهي برودة أنعشت عيني، وفتحتهما… كان الليل وحده يحرس باب المغارة. أسلمت روحي لغموضه الرقيق.

الحياة تدب في رموشي، الجراء تلحس وجهي، لعابها البارد ينعش جبيني، ويُبرّدني. كان جذعي متيبساً ملتصقاً بجدار المغارة، رفعته عنوة ويدي مازالت قابضة على غصن منطفئ. لم يأتِ أحدٌ مع الحمى التي سحقتني وافقدتني وعيي؛ لا الذئبة ولا الذئب ولا الموت. الجراء جائعة وأنا كذلك. ماذا يحضر في نفس المرء، بعد محطة موت، غير أن يشكر الحياة، ويعرب عن امتنانه لمنقذه ويكرمه بما جادت يداه؟ فتحتُ حقيبتي، وأخرجت ثلاث علب سردين، وخبزاً يابساً، وحفنة سكر، دفتها معا وفرشتها للجراء.
“تفضلوا!”
بلحظات التهموا الوجبة وكادوا يأكلون أصابعي.
تسربلتُ بكيس النوم وخرجتُ، كان ضياء خفياً يكنس بقايا الليل، السماءُ فوق سفوح الجبال أخذت لون البرتقال، الهواءُ عاريا صقيلاً، ينقل رسائل كاذبة من مكان مجهول إلى مكان مجهول آخر، الندى يستلقي كسولا على الصخور، مثل دموع تحمله، بلا ألم، أوراق نباتات لا أعرف أصلها. خرجت الجراء تتراكض وتتصارع، تعض رقاب بعضها، تتمرغ على الأرض، وتتعلم الأخوة… صوتها وحده أيقظ الكون من غفوته.